تفاصيل حضارة النوبة القديمة:
يصعب تحديد ملامح التاريخ السوداني القديم ، خاصة فيما يتعلق بفترات ما قبل التاريخ نسبة لتأخر عهد الكشف الأثري بالسودان والذي بدأ في أواسط القرن التاسع عشر عندما زار بعض الرحالة الأوربيين السودان وكتبوا عنه بشيء من التفصيل .
وبالرغم من شح المعلومات المتوافرة عن السودان في عصوره الأولى ، إلا أنه أمكن التوصل لوجود الاستيطان البشري في مناطق متعددة منه منذ عقود طويلة ما قبل التاريخ . ولعل وادي النيل والمناطق المتاخمة له كان من أكثر المناطق جذبا للعنصر البشري نسبة لتوفر مقومات الاستقرار من مياه و تربة وموقع جغرافي متميز ، مما جعله مركزا لأقدم الحضارات الأفريقية المعروفة لدينا حتى الآن .
وعموما يمكن تقسيم مسيرة الحضارة الإنسانية في السودان عموما وفي منطقة النوبة على وجه الخصوص إلى المراحل التاريخية التالية :
1- عصور ما قبل التاريخ ( العصور الحجرية ) :
تعتبر المعلومات المستمدة عن عصور ما قبل التاريخ في السودان شحيحة نوعا ما نسبة لحداثة عهد الكشف الأثري في السودان . وتعتبر الحفريات التي تقوم بها مصلحة الآثار السودانية المصدر الوحيد الذي نستقي منه معلوماتنا عن هذه الفترة ، حيث دلت الأدوات الحجرية ومخلفات المدافن التي تم الكشف عنها على وجود شكل من أشكال الحضارة البشرية في مناطق متعددة من السودان ، خاصة في الأجزاء الشمالية منه :
في منطقة الخرطوم الحالية وجدت آثار من العصور الحجرية الأولى ترجع لجنس زنجي يعتقد انه كان يختلف عن أي جنس زنجي معروف لدينا حتى الآن .
وجدت أيضا آثار من العصر الحجري الحديث في منطقة الشهيناب (شمال الخرطوم) ، استدل منها على معرفة إنسان الشهيناب للفخار وصناعة الخزف واستئناس الحيوان .
وفي منطقة خور موسى ( شمال وادي حلفا ) وجدت آثار لمجموعات كانت تعيش على القنص والجمع وصيد السمك . يعتقد بأن هذه المجموعات ربما تكون قد وفدت إلى وادي النيل من الصحراء المتاخمة التي كانت آنذاك سافنا غنية آنذاك ، وذلك عندما بدأت في الجفاف والتحول إلى ما هي عليه الآن .
كما وجدت آثار ترجع إلى 15.000 سنة قبل الميلاد في سلسلة من المواقع ما بين توشكي والشلال الثاني ، دلت كلها على وجود تجمعات بشرية أكثر تطورا في هذه المناطق .ويسود الاعتقاد بان هذه المجموعات البشرية ربما تكون قد عرفت النشاط الزراعي ومارسته، وذلك قبل عقود طويلة من قيام الثورة الزراعية في آسيا . ومما سبق ، يتضح أن شطر وادي النيل الجنوبي كان الأسبق في ظهور المجموعات البشرية التي وفدت إليه منذ بدايات العصور الحجرية الأولى ، بعكس شطره الشمالي الذي يرجع تاريخ أقدم المجموعات البشرية فيه إلى العصور الحجرية الوسيطة والحديثة .
2- المجموعة الحضارية الأولى (3800 ق م - 3100 ق م ) :
يرجع تاريخ هذه المجموعة إلى ما قبل 10 آلاف سنة . وقد قامت هذه الحضارة في منطقة خور بهان شرقي مدينة أسوان المصرية (حيث الصحراء الآن)، وكان مركزها في مناطق القسطل ووادي العلاقي .
كان أفراد هذه المجموعة يعتمدون في حياتهم على تربية الماشية ، ولم يكن وادي النيل مأهولا بالسكان في ذلك الوقت ، إلا أن بعض المجموعات نزحت - ولأسباب غير معروفه - جنوبا وتمركزت في المناطق المجاورة للشلال الثاني حيث اكتسب أفرادها بعض المهارات الزراعية البسيطة نتيجة لاستغلالهم الجروفالطينية والقنوات الموسمية الجافة المتخلفة عن الفيضان في استنبات بعض المحاصيل البسيطة ، مما أسهم في استقرارهم هناك و من ثم قيام مجتمعات زراعية غنية وعلى مستوى عال من التنظيم فيما بعد .
وعلى عكس الاعتقاد السائد فان الدراسات التي أجريت مؤخرا على آثار هذه المجموعة في منطقة القسطل أثبتت وجود درجة عالية من التنظيم السياسي والرخاء الاقتصادي لديها ، بدا جليا من التقاليد التي كانت متبعة في دفن الموتى وثراء موجودات المدافن مما يدعو إلى الاعتقاد بوجود ممالك قوية لبس ملوكها التاج الأبيض واتخذوا صقر حورس الشهير رمزا لهم ، وذلك قبل زمن طويل من رصفائهم الفراعنة في مصر العليا . والجدير بالذكر أن التاج الأبيض وشعار حورس اتخذا فيما بعد رمزا للممالك المصرية التي نشأت في مصر لاحقا ، مما أدى إلى الاعتقاد بان هذا التقليد منشأه ممالك مصر الفرعونية ، ولكن في الواقع فإن وادي النيل الأعلى لم يكن قد عرف بعد الكيانات البشرية المتطورة في تلك الحقبة البعيدة من التاريخ عندما نشأت حضارة المجموعة الأولى في المناطق الشمالية من النوبة .
احتلت المجموعة الأولى وممالكها ، كما يبدو من آثارهم المنتشرة في المنطقة ، جزءا من وادي النيل امتد من جبل السلسلة ( في مصر العليا ) شمالا وحتى بطن الحجر عند الشلال الثاني في الجنوب . وكان قدماء المصريون يسمون النوبة آنذاك ب " تا سيتي " أي ارض الأقواس نسبة لمهارتهم في الرماية ، وربما كانت بينهم نزاعات حدودية انتهت باحتلال النوبة للأجزاء الجنوبية من مصر العليا لفترة من الوقت . وبصرف النظر عن صحة نشوء مثل هذه النزاعات فإن من الثابت وجود علاقات تواصل وتبادل تجاري جيدة بينهم استفادت منها مصر كثيرا خاصة في مجال الزراعة ، حيث ساعد انتقال الخبرات النوبية إلى مصر على استقرار المجتمعات البشرية في شمال الوادي وتطورها مما كان له الفضل في قيام الممالك المصرية القديمة لاحقا .
أهم ما يميز المجموعة الحضارية الأولى أنواع الفخار المميز ذو اللون الوردي والأواني المزركشة بالنقوش ، وقد عثر على بعض الأنواع المشابهة لهذا الفخار في مناطق متفرقة من شمال السودان حتى امدرمان . كما تميزت هذه الحقبة بطريقتها المميزة في دفن الموتى حيث كان الميت يدفن في حفرة بيضاوية الشكل على جانبه الأيمن متخذا شكل الجنين ومتجها جهة الغرب .
مع بدايات توحيد ممالك مصر العليا في مملكة واحدة متحدة واجهت النوبة قوة لا تقهر في الشمال بدأت تهدد وجودها واستقرارها . وبازدياد نفوذ وهيبة المملكة المصرية المتحدة اتجهت أطماعها جنوبا صوب النوبة ، في الوقت الذي بدأت فيه المجموعة الأولى تفقد قوتها العسكرية والاقتصادية مما جعلها عاجزة عن تأمين حدودها الشمالية التي بدأت تتقلص تدريجيا نحو الجنوب ، وقد بدا علامات الضعف والتدهور واضحة في آثار هذه الفترة مما دفع بعض العلماء إلى الاعتقاد بوجود مجموعة أخري تعرف باسم " المجموعة الحضارية الثانية " تلت المجموعة الأولى وكانت أضعف منها نسبيا .
وبحلول العام 2900 ق.م أصبحت النوبة السفلى بكاملها تحت السيطرة المصرية وخلت تماما من سكانها بعد تراجعهم جنوبا إلى منطقة النوبة العليا ليختلطوا بحضارة كرمة الوليدة ، وظلت النوبة السفلى بعد ذلك مهجورة لعقود طويلة وانقطعت أخبارها خاصة بعد تعرض آثارها ومدافنها الملوكية للحرق والتدمير من قبل جيوش المملكة المصرية . وهكذا طويت صفحة هامة من تاريخ هذا الجزء من وادي النيل في نفس الوقت الذي كانت تشهد فيه منطقة أخرى من النوبة ميلاد حضارة جديدة ظهرت بوادرها في منطقة كرمة على الضفة الشرقية للنيل جنوب الشلال الثالث .